الرجوع الى صفحة المقالات

 
 
ألا يا حمامات العراق أعنني
 

بقلم : حسن المسعود

أن كل من يمارس العمل الفـني، يدرك أن عمله هذا مشابه تماما لما يعمله الفلاح، حين يبذر حبوبه. وما عليه إلا الصبر والانتظار طويلا كي تتحول الحبة الصلبة الصغيرة إلي شجرة مفعمة بالحياة،  شجرة ذات عطاء من ورود وأثمار. وكلما أراد الفلاح بذرالحبوب في الموسم القادم، تكرر كل شيء من جديد.
إن الابتكار الفني هو عبارة عن رغبة، تكون في بداياتها كالبذرة نابعة من داخل الفنان، وهي في ظهورها تشـبه عملية إيـقاظ أشكال وألوان مضى عليها زمن طويل وهي راقدة في مخيلته.
في بعض الأحيان تكون الرغبة للابتكار متوفرة، إضافة إلى كل ما يتطلبه العمل الفني من ألوان وأوراق،  لكنما الأشكال قد تكون لازالت في حالة نعاس أو حتى في سبات عميق في دلخل الفنان، وأن تجبر على الولادة فستكون هـشة وضعـيفة.
ففي هذا الصباح مثلا، أردت عمل خطوط حمراء، على مساحات كبيرة بيضاء. وكنت أرى في مخيلتي أشكال هذه الخطوط  وما يحيط بها من فضاء واسع. لكن كل ما كنت أخطه على الورق كان يبدو صغيرا ومحصوراً ضمن مساحة ضيقة .
أردت من يدي تنـفـيذ ما أتخيله من فضاء لانهائي، ولكنها لم تطاوع رغبتي.
لابد من أن أوضح أولا لماذا أريد أن تعكس خطوطي الفضاء الواسع. لأن الفضاء الواسع يعني لي مجال النور و الحرية، وهكذا أتصوره. بالنسـبة لي أريد التعبير عن موقفي من خلال العمل الفني.وأريد أن يعيش المشاهد لحظات الحرية التي اتحسسها من خلال رؤيته للخط  الذي اعمله.
أريد أن أخط كلمات تهِبُ الأمل، لمجابهة العنـف البشـري والحزن الذي يخلفه فينا.
 لذلك أريد لعملي الفني أن يكون مشحونا بطاقات فنية مقـنعة، تعين على مواجهة صعوبات الحياة. أريد أن احوّل الألم الذي احسه إلى مادة للخلق المتسم بالتفاؤل. ماذا ينفع العويل والبكاء في بيت يحترق؟ أوأثناء عاصفة هوجاء ومدمرة، هل سينفع وصف هذه العاصفة لمن يعيشها؟
يمكن للخط كعمل فني أن يتحول إلى موقف أخلاقي، عبر التقـبل أوالرفض، في تعبير حركات الحروف وعبر المعنى للكلمات. للخط أيضا قيمة جمالية، من خلال البناء الهندسي والنغم في الاشكال والنور الذي يخترق المادة اللونية.
في الفضاء تهيم الغيوم وتطير العصافير. وفي الفضاء تـتجدد الحركات بدون توقف. الفضاء ليس فارغاً. جميع الفنانين يختـبرون الفضاء في عملهم الفني، وحتى الأدب الشـعبي كان يعوم في الفضاء عبر بساط الريح. في الفضاء تعوم هذه الكرة الحجرية الكبيرة التي نعيش عليها: الأرض. ومن بعيد نرى الكواكب والنجوم بحركاتها البطيئة .

يقول الحكيم الصيني لاو تسو: تـُصنع الأوعية من الطـين ولكن الفراغ هو الذي يعطي الإناء منفعـته فالفضاء إذن هو الذي يمهد الطريق للشكل وللبحث عن الكمال.
إذن، كل شيء ممكن في الفضاء. وكل الحلول يمكنها أن تتحقق. الفضاء هو الجديد غير المعروف. وهذا ما أبحث عنه في عملي الفني، وهو الذي يضفي التـناغم في الخط كما الصمت في الموسيقى.
الفضاء في المعمار هو الجانب المـفيـد للسكن. وهكذا سـيكون الفضاء خلف الخطوط. مجال الحلم لي وللمـشـاهد فـيما بعد.
 أريد بجانب خطوطي فضاءً ممـتلـئاً، كامتلاء الفضاء المحيط بنا بموجات غير مرئية للـبث المتعدد: راديو وتلفزيون وتلفون. نعم فضاء ممتلئ. لا يمكن إضافة أي شيء إليه. ولكنه يبـقى فضاءً رحباً يمكن للخيول أن تعدو فيه.
كل ما عـملـته هذا الصباح من خطوط بدت لي صغيرة ومغلقة داخل مساحات ضـيقة كما قـلت، فـتوقـفت عن الخط متسـائلا  متى سأســتطيع خط ما أراه في ذهني؟ متى سأرى على الورق الخطوط التي أراها بوضوح في مخيلتي؟  متى سـأرسـم الحرية من خلال  حروفي  وكلماتي الطائرة داخل فضاء مطلق؟
بقـيت في حوار داخلي انتـظر تحقـيق هذه الرؤى. يقول السـرياليون: إن التمدد والتخيل هو عمل أيضا، فقـلت في نفـسي لأترك الألوان والأوراق جانبا. وأبقى في التأمل. في حلم يقظة. التأملات تـترك الذهـن عائماً على الدوام. فيكون رحباً لاسـتـقبال مخـتلف الأحاسـيس.
ألم يبـتكرالخطاط الإيراني القـديم أسـلوب التعليـق، بعد حلم رأى فيه أشكال الحروف مرسومة على جسـم بط طائر في الفضاء؟ ومنذ القرن الرابع عشر تـتطاير حروف التعلـيق في الفـضاء غير آبهة بالسـطر الذي تحتها. ومنذ ذلك الزمن يغذي حلم هذا الخطاط الملايـين من الناس جماليا.
عدت بأفكاري بعيدا بعيدا … إلى الأزمنة القديمة، عندما كان الخطاط ينهض في الصباح الباكر. يأخذ قـلمه ومحبرته وأوراقه. وبعد ساعات طويلة من التمرين على الحروف وقواعدها يتوقـف فجأة ليـقول انه لم يصل إلى ذروة القوة المطلوبة لحرف الهاء أو حرف الحاء مثلا. ويقرر العودة في اليوم التالي للخط من جديد.
 فهنالك طاقات ضرورية ولابد منها للخط، تشـبه طاقة التـيار الكهربائي، التي تولـّد النور في المصباح. طاقات تشـحن الحروف فيـبدو الخط جميلا. وعندما يـتلـذذ المشـاهد بهذه الرؤية فأنه سـوف يتسـلم هذه الطاقات التي ستـشحن بدورها قـدراته وتعيـنه على العيـش.
وقد لخص الخطاط ابن البواب قـبل ألف سـنة معضلة الخلق الفـني بهذا
النص : 
إن من تعـاطى هذه الصناعة  ـ يحتاج ـ إلى فرط التـوفر علـيها، والانصراف بجملة العناية بها والكلف الشـديد بها، ولوع الدائم بمزاولتها.
فأنها شـديدة النـفار بطيئة الاستـقرار، مُطـمعة الخداع، وشـيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغـدر والجـفاء.
نوار قـيدها الأعمال، شـموس قـهرها الوصال، لا تسـمح بـبعضها إلا لمن آثرها بجملته، وأقـبل عليها بكليته، ووقـف على تآلفها سائر زمنه واعتاضها عن خله وسـكنه.
لا يؤسـيه حيادها ولا يغـمره انقيادها، يقارعها بالشهوة والنشاط، ويوادعها عند الكلال والملال حتى يبلغ منها الغاية القصـية، ويدرك المنزلة العليـة.
وتنـقاد الأنامل لتـفتـيح أزهارها، وجلاء أنوارها، وتظهر الحروف موصولة ومفصولة، ومعـماة ومفتحة في احسن صيغها وأبهج خلقتها.
منخرطة المحاسـن في سـلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والتآمها، لينة المعاطـف والأرداف، مـتناسـبة الأوسـاط والأطراف.
ظاهرها وقور ساكن ومفتـشها بهج فاتن، كأنما كاتبها ـ وقد أرسل يده وحث بها قلبه ـ رجع فـيها فكره ورويته.
إن ابن البواب يقول في هذا النص كل شيء. إذ لابد من الولوج في عالم الخط بتهيؤ كامل من الجسم والإحساس. ومن القلب. فإن كان القلب مثـقلا  ستكون الخطوط ثـقيلة ويتضاءل الفضاء من حولها. وإن كان القلب خفـيفا سـتطير الخطوط في الفضاء الرحب. فـفي لحظة الخط أكون أنا والخط واحد، أي يصبح الخط أنا، وأصبح أنا الخط.
ولكن هل أن ما أعمله من خطوط يشابه مما يعمله ابن البواب في القرن الحادي عشر؟ وهل يمكنني المقارنة  في هذا المجال؟ كان الخطاط القـديم يريد التوصل إلى خط يقـترب مما تعلمه من أستاذه وأستاذ أستاذه. بـينما إنني اليوم أتمسـك بتركة الماضي بما هو الأكثر نبلا والأكثر جمالا فقط.  ولم يعد الخط عندي وسـيلة للكتابة فـقط ، بل عمل فـني بحت.
الخط لدي هو شيء آخر. إنني أخط للرؤية أكثر مما هو للقراءة، لذا تأخذ حروفي التعبـير عبر اشـكالها وهندسـتها المبسطة. تبدو مرة في الراحة والـثبات، وأخرى في الحركة والمثابرة. تطير في الذهاب والإياب. في تردد أو إقدام. في غضب أو فرح.
وكل التقاء بين حرفين أو ثلاثة سـيولد شكلاً جديداً  لم اكن اعرفه مسبقا. كما أنني لا انظر للشكل فـقط كما قلت، بل للفراغ أيضا الذي يكون كخلفية للخطوط. 
الفراغ موضوع هذه السطور.
أبذل دائما نفـس الجهد في خط الكلمة والبياض خلفها على حدٍ سواء. نحو جسم الحرف واللاجسم المحيط به. وأهمية الفضاء هنا تعادل اهمية الكلمات المخطوطة. فيتحول الفضاء إلى عنصر مادي أيضاً، يمكن فتحه وسحبه وتوسيعه.
أريد أن تـتحول الكلمة عـندي  إلى ما يشـبه تمثالاً كبيراً أو بناء معماري عال على ارض واسعـة، وهكذا أكون اقرب للفـنانين التشــكيليــين. فيتحول الخط لديّ إلى لوحة تجريدية، لأنني اعمل شكلا  يشغل مساحة نسمــيها بالسطح التشــكيلي.
ولكني أتساءل مع نفـسي وأقول: إنني اقرب للفنانين التـشكيــليـين. وأظل أعيد السؤال: هل أنني فعلا ً اقرب للتشــكيليـين أم اقرب لخيال للشعراء؟
إذا كان مظهرعملي يتطلب تقــنيات الفن التشـكيلي، فأن جوهر عملي على أية حال يقـترب كثيرا من الشعراء. فكلانا يلعب بالكلمات. نحذف من العبارة ما نريد. نقـرب ونفـرق الكلمات، بهدف ولادة شـرارة نور جديدة.
ألم يقل الجاحظ   والشـعـر صياغة وضرب من التصوير  وأنا اكرر معه: الخط أيضا هو صياغة وضرب من التصوير.
الحرف ليس مجرد خط هـندسي بســيط، إنما هو عدة حركات مســتـقلة في ذاتها ولها حياتها الخاصة بها. كل حرف له بداية وتطور ونهاية. وعلى الرغم من كونه محدداً، فأنه لابد من أن يعطي تأثــيرات وجدانية وعاطفـية لا حدود لها، تكمن في إثارته إلى اللامحدود داخل شـكله المحدد والمتواضع.
ثم أن معنى الكلمة قد يحاول الحضورفي بعض الأحيان ويزج نفسـه من خلال الشكل. فعندما اخط كلمة هواء أرى الهواء في الحروف. وعندما اخط النار فسـتكون الحروف كاللهب ترتـفع إلى الأعلى. وخلف هذه العناصر سيكون الفضاء المرئي على الورقة خلف الخطوط، وهو النتـيجة الحاصلة من علاقات الحروف فيما بـينها. لذا فان الفضاء هو جديد في كل خط جديد.
نعم أجد نفـسي اقرب للشـعراء لان مادتنا هي الكلمات، ودائما ما يفرض الشعـر نفـسه عليّ. كهذا البيت للشاعر الأندلسي أبو المخشى عاصم بن زيد:

فـبتــنا والـقلوبُ معـلقــاتٌ وأجنحة ُالرياحُ بنا تطـيرُ

سبع كلمات تربط الإحـساس الإنساني بالطبيعة. سـبع كلمات ترسم لوحة أرى فيها الفضاء الواسع وهذا ما يهمني في كلمات أبو المخشى. وكل من يسـمع هذا البيت الشعري، يخلق في ذهـنه الصورة التي يريدها. ولا تتـشـابه هذه الصورة عند شخص وآخر وكذلك مدي اتسـاع المنظر. إن الشـعراء يجعلون السـامع ذكياً، يجعلونه يخلق الصورهو نفسه.
سـبع كلمات لامعقولة. فلا يمكن للـقلوب أن تعـلق. و ليـس للرياح أجنحة.
ألا يمكنـنا نحن الفــنانـين إعطاء صور بهذه القـوة والبـساطة؟

 

ويحضرني الآن قولا للشـاعر كثيـّر يجيب على حالتي في هذا اليوم بعدم الالتـقاء مع الإيحاءات، فقـد قـيل له: يا أبا صخر كيف تصنعُ إذا عـسر عليك قول الشـعــر؟
فقال كثيّر: أطـوف في الرباع المُخلية والرياض المُعـشبة، فـيـسهلُ عليّ أرصنهُ، ويسـرع اليّ أحـسـنهُ.
إذن سـأفعل ككثـيّر سـأتجول في الرباع المُخلية كالصحراء. والرياض المُعـشـبة. فنحن محاطون بالحدائق.
لا لا  فأنني الآن اجلـس لأغـور في تخيلات هـادئة. استعيـد الذكريات عن كل ما يقـترب من مناظر الفضاء الواسـع. وأنظر بوضوح في داخلي، فأرى عالما واسعا، وها هي الآن الخطوط الحمراء التي أود رؤيتها. وبالضبط كما أتخيلها داخل هذا العالم الرحب. لأن ليـس كل ما هو كامن في داخلي صغير ومظلم. إن صور الرؤى الداخلية قـادرة على أن تكون اكبر بكثير مما تراه العيون.
التأمل يقودني دائما إلى تكـثيف طاقـاتي الداخلية، لرؤية هذه الصورالكبيرة. وأحيانا يفجرها عندي بيت شعـر، كما نسـمع ونرى هنا صور الشاعر جميل بن معمر:
أقـلب طرفي في السـماء لعله يوافـق طرفها حين تنـظر 
إن المثلث العالي الذي يرسمه الشاعر في الفضاء، مذهل من حيث الاتساع. فنظرته تصعد للســماء. ومن مكان آخر فأن نظرة عـينها تعلو للسماء أيضا، ولعل اللقاء بين نظرتيهما قد يتحقـق هناك في الفضاء. ليس المهم هنا واقعية رغبة الشاعر جميل فأنه يعرف جيدا أن ما يبغـيه لن يتحقق قط. ولكن ما يهمني هنا هو الصورة المتخيلة المرسـومة داخل الفضاء. إن هذا النوع من الصورهو ما أبحث عنه، وهذا الفضاء الذي أريده. هو فضاء كبير أرسمه بتسع كلمات فقط.
أما الشاعر ابن زيدون فيـتكلم مع المطر طالباً منه أن يذهب إلى قصر حبـيبـته ولادة بنت المسـتكفي قائلاً:
يا ساري البرق غـاد القصـر وأسق به من كان صرف الهوى والود يسـقينا

التأمل في الفضاء يقود ابن زيدون إلي ابتكارهذه الصورة الفضائية الهندسية. نظرة عمودية إلى الأعلى لرؤية الغيوم. آمراً إياها بالتوجه أفـقيا لضواحي قرطبة. وأخيرا الهطول على قصرالأميرة.
عند التأمل يكون الإنسان معلم نفـسه. وها أنا أقول لنفـسي: إن الشـكل في الـفـن هو قـبل كل شيء فكرة ولابد من رؤية هـذه الفكرة بوضوح في ذهني  قبل الانطلاق للبدء بالخط. وعندما لا توجد علاقة وصل بـين الـيد وهذه الفكرة ، فـسيحكم مسبقا على عملية الخط بالفـشل.
وعندما وجدت هذه النظرية جاءتني عـقبها وبسـرعة نظرية متناقـضة معها :
الفكرة تبقى عـقلانية وفي العمل الفني لابد من مجال واسع للحدس، وعلى الجسد أن يعبرعن ذلك. لذلك اجدني مجبراعلى تجاوز هذه الـفكرة بسرعة وتخطـيها إن أردت الابتكار.
فـفي العمل الفني وفي لحظة الخط علينا أن ننسى كل ما فكرنا به مسبقا ونترك الجسـم يعبر حسيا وحدسيا لحظة الإبداع.
                                                    * 
هذا البـيت الشعري لابو الطيب المتـنبي وأتسـاءل هل كان عـقلانيا؟  أم انه ترك لخياله حرية التعبير.التعبيرعن الحالة الوجدانية والصورة الطـبيعية في آن واحد: 
كريشــة ٌفي مهــبِ الريح ساقــطة لا تستــقر على حالٍ من القــلق 
إن هذا البـيت في حد ذاته لوحة خطية. أرى فيه فضاءً واسعاً وحروفاً ترقص في مهب الريح. الحروف كما الريشـة تـتحدى قانون الجاذبيـة الأرضية. تسـلّم نفسها للرياح وتستسلم لها. أردت لخطوطي دوماً أن تكون كتـلك الريشـة، وأن تلمـس الأرض بأقـل ما يمكن، أن توحي بالطيران، تماماً كالحمامة التي تركل الأرض برجل واحدة، فاتحة جناحيها للطيران. في كل شكل أردت أن أرى نقـطة ثبات ونقـطة هروب، في آن واحد.
يرسـم البحتري صورة مشــابهة لصورة المتنـبي من الناحية الوجدانية، ولكن بكلمات يختـلط فيها البعد الجغرافي والفضاء: 

وأسـتـبطي إلى بغــداد ســيري ولو أنى رحلـتُ على البراق ِ

 

 calligraphy, Hassan Massoudy


ونجد نفـس المشاعرعند ابن المعـتز، هذا الـشاعر الذي عاش في بغداد يوم كانت  دار السلام  تعيـش ظروف صعبة من ألآم ومآسي. إذ قـتل ابن المعتز بعد توليه الخلافة ليـوم واحد فـقط. وفي هذا البـيت الشـعري يلخص الفضاء الواسع للعراق، والأسى في قلبه: 
الدار أعرفــها رُبى ً وربوعا حـتى أســاء بها الزمان صنــيعا
 ولو نهبط لجنوب العراق، في صورة أخرى يائسـة للفضاء الصحراوي تركها لنا شـاعر مجهول، في لوحة تـنم عن قدرة واسعة في رسم التخيلات: 
سرى طـيف ليلي عـندما غـلب الكرى سحـيرا ًوصحـبي في الفلاة رقود

فلما  انتهيـنا  للخـيال  الذي  سرى أرى الجو  قــــفرا ً والمزاد  بعـيد

أكاد أرى صورة هذا الشاعرفي الصحراء متكورا على نفـسه يزوره الحلم  بعد أن غالبه النعاس،  يتـدفأ بجـنب بعير نائم في ليل شـتـوي بارد. يحيط به بعض رفاق الرحلة وحولهم الفـضاء بلا حدود. فضاء موحـش وممـتد حتى اللانهـاية.

*

لوحة أخرى للشـاعرأبوالطيب المتنبي عن الفضاء في الصحراء. فأني أرى في مخيلـتي الفـضاء الذي يتكلم عنه في البيت الشـعري التالي. فـقد ولد في الكوفة بمكان لا يبـعد كــثيرا عن المكان الذي ولِدتُ فـيه.
وبعـيداعن جماليات الصحراء،  يرسم لنا أبوالطيّب الفضاء الصحراوي بشكل تراجيدي: 
ذراني والفــلاة ُ بلا دلــيلٍ ووجهــي والهــجـيرُ بلا لثــام ِ 
كم من مرة تذكرت هذا البــيت للمتــنبي. أولا في النجف وصحاريها  بجنوب العراق، والرياح السريعة المحملة بالرمال والتي كنا نســميها السموم. وبعد ذلك في صحاري دول الجزائر والمغرب وتونس موريــتانـيا. عندما تداهمنا عواصف رملية تسدّ الفضاء وتحجب الرؤية. ولكني كنت دائما اشعر بفرح غامض يشـوبه القـلق عند مجيء هذه الرياح. فأن الرياح في الصحراء كطيورعـملاقة غـير مرئية  في الفضاء الواسع. تـُغـير على الكـثبان المحدبة فـتأخذ من رمالها  الناعمة كالدقـيق، وتصعد بها للسماء، فتصبح الرمال أمام الشـمس وكأنها ستائر نسجت من نور ذهبي. 
يأخذ الفضاء اللانهائي أشكالا محددة  معلقة في السـماء، الستائر الرملية البعيدة تكتسي باللون الذهبي، أما القريبة فتـميل إلى اللون البرتقالي القاتم. عند ذاك تـتحول الصحراء إلى مدينة ذات معالم ذهبية من النور تقف على الكثبان التي تشــبه حروف انسـيابية  من الخط الديواني أو خط التعليق. النور هنا يقاوم الظلام ويتحداه.
إن هذه الصور الكبيرة للفضاء لا يمكن رؤيتها بمكان آخر غير الصحراء. كما لا يمكن تصويرها أبدا لأن كل هذا المنـظر يرتسـم في دائرة كبرى مركزها الإنسان. فيكون الأفـق في نفـس البعد لعين الإنسان من كل الجهات.
فراغ وفضاء الصحراء دائري. ولاشيء يوقـفه عند صعوده نحوالأعلى سوى بعض الغيوم البيضاء في عز الشتاء. 
هنالك نقطة واحدة منيرة في هذا المنظر الكبير تحت السماء المعتمة. ألا وهي الشمس،  مصدر النور الذي يعطي لكل لون قيمته.  وبذلك يخلق نور الشمس درجات لونية متناغمة  توحي بعمق الفضاء. قرص اصفر كبير من الذهب معلق في الأعلى بين الستائر الرملية التي يلاعبها الهواء.

وتنــتهي مشـاهد لعبة الرياح والرمال عند غياب الشــمس ليلا وهبوط الألوان القاتـمة. وعندما يأتي القــمر نكون نحن الثلاثة : القمر وظلي وأنا  كما يقول الشاعر الصيني  لي تاي به. وهذا الشاعر هو الآخر يرسم لنا لوحة كبيرة في الفضاء ولكن بأقل كمية ممكنة من الحروف. بساطة مذهلة أليس كذلك ؟
وهكذا أن فضاء الصحراء الدائري والحرية المطلقة التي يوفرها، يجعلنا نفهم ما يقوله الشاعرشــنفرة:

لعـمرك، ما بالأرض ضـيق على امرئ سـرى راغـباً أو راهـبا، وهو يعـقل ُ

فكر شنـفرة وإبداعه الفـني ملخص هنا بكلمات بسيطة. أهداف أخلاقـية تزيد من وعي الإنسان وتساهـم في تكوين مبادئه. فأن فضاء شنـفرة هو الحرية، وهو يرى أن الإنسان يمكنه أن يكون حرا إن أراد.  ولا ضيق عليه في الأرض، لأن الحرية الحقـيقية والفضاء الواسـع موجودان في ذهـنه. ويوضح فكرة شـنفرة  الزنجي الأمريكي مارتن لوتر كنج في العبارة التالية:  لا يستطـيع استعـبادي  أحداً إذا لا أفكر كعـبد. فضاء شنـفرة إذن هو حرية الإنسان  وكل هذه الحرية تكمن في ذهـنه قـبل كل شيء. وهذا هو الفضاء الذي ابحث عنه وأريد أن أضعه في خطوطي.
هنالك نص للشـاعر جلال الدين رومي في القرن الثالث عشر، يروي  فيها قصة نهر يريد عبور الصحراء فتـمتصه الرمال كلما توغل في الفضاء الصحراوي. فيصيح متعـجبا ومحتجا بأنه عبَََر الجبال والوديان فكيف لا تسمح له الصحراء بالعـبور؟
فيأتـيه صوت من الرمل يقول له: انك تسـتطيع عبور الصحراء ولكن على شـرط أن تـتغير و تـتحول إلى بخار، وتصعد في الفضاء  فيحـملك الهواء على شكل غيوم، وفي نهاية الصحراء سـوف تصطدم بالجبل وتسـقط كمطر وتسـيل كنهر من جديد.
وهكذا علينا نحن الفـنانين قبل البدء بعمل فني مبتكر، أن نعـيش مخاضا جديدا مـثل ذلك النهر، وأن نتـغـير في الشكل كل يوم جديد عن الأمس القديم.
وإلا سوف تمتصنا الرمال ...

لو أردت عمل خطوطي الحمراء داخل فضاء واسع، فلابد من أن اخلق هذا الفضاء في داخلي قـبل بدء الخط. وهذا هو الشـرط الأول. أي أن العمل الفني هو انعكاس لصورتي الداخلية.  إذا كان الفضاء ضيقا، فذلك يعـني أنني أعـيش حالة انكماش وتـقوقع. وان أردت  للفـضاء أن يكون متسعا فيجب أن اعمل على الوصول إلى هذا الاتساع قبل كل شيء. ولو أردت الحرية في مظهر خطوطي علي أن أعيـش هذه الحرية كما يقول المتنـبي:
وكم من جـبال جبـت تـشهد أنني الجـبال وبحر شـاهد أنني البحر
العلو في ارتفاع الجبال يوحي بأشكال عمودية. ومنظر البحر اللانهائي يوحي بامـتداد أفـقي.
 وفي هذه الأماكن تكون السماء عريضة والفضاء على اتساع كبير.
وهكذا نرى في هذا البيت الشــعري  فضاء آخر رسمه  لنا الـشاعر المتـنبي يختلف عما رسمه في البيت الشـعري السابق للفضاء الصحراوي.
بعد هذه الجولة في عالم الشعراء ورؤية الفضاء الذي يرسمونه. أرى الصور الخطية في مخـيلـتي أكثر وضوحاً، وما علي الآن ألا أعود للألوان الحمراء والورق. لقد تحررت  تخيلاتي من التردد. استيــقـظت الرؤى، وأشكال الخطوط اقـتربت.
سأحاول دائما الولوج والتـغلغـل في مخيلة الشـعراء وسأخـط كلماتهم:
سأخاطب بغداد مع الجواهري:  حيـيـت سـفحك عـن بُعــد فحيــيني يادجلة الخــير يا أم البــساتـين.
وأحيي مع ابن الدميــنة:  أيا ساكـنين شـط دجلة: كـلــكم إلى القــلب من اجل الحبــيـب، حبـيـب.

وسأخط قول قـيس ابن الملوح
ألا يا حــمامات العــراق أعنــني ...

حسن المسعود ـ  حزيران 2007

لايجوز اعادة النشر دون موافقة الكاتب

الرجوع الى صفحة الاستقبال

الرجوع الى صفحة المقالات