الحـــبر الاســـود

 

بقلم : حسن المسعود

 

من الصعـب تـلخـيص كـيـفـــية تحـضـير الحـبر. ولكني سـأعـمل كما الاقـدمـين بأعـطاء الوصـفات والحــوار مـعها. وبعـد مـقـدمة تأملية قصيرة، سـأتكلم بشـكل موسع عن الحبر للــتأكــيد على أن تحـضـير الحـبر هـو أيـضا ً موضوع نفـسي واجتـماعي وأدبي، ويتـطـلب خيالا ً واسـعا ً مــن قــبـل الخــطــاط.

 

في يوم من أيام الـشـتاء الرمادية، حـيث الـسـماء مثـقـلة بالغـيوم، والمطر ينهـمر بخطوط هـوجاء في مهـب الرياح.  كـنت اشـعر بالانـقـباض والضـيق لـتـقـلص الـفـضاء المحـيط بي وبـفـقـدان الاتـسـاع  والعـمـق للـمـنـظر المـرئي أمامي.  ولكـنـني قـررت أن لا أسـتـسـلم لضغـوط الطـبـيعة، بل ان احـساسـاتي ذهـبت الى ماتـعلـمـته من رؤى الفـنانيــن. وهوأن الالوان كلها متـسـاوية في العـطاء، ولايوجد مجال هـناك لمـعاداة  لون على حـساب لون آخر. وأن الالـوان الرمادية والـسـوداء هي التي تـتجمع وتخــتــلط  فـيها كل الالوان

قـلت في نفـسي ان الـمعـرفة والـتـحليـل لـشيء مـتعـب ســوف يـساعد حتما على تحمله. وان الايمان بأن ألوان الــشــتاء الرمادية هي جزء من الحياة والطـبيعة، سـوف يـسـهـل تـقـبلها. وان هذه الالوان تخـفي بداخلها كل الوان الربيـع القادمة

 ومن هـذه الافكار التي بحـثت عـنها في زوايا ذهـني المـتعـب. قررت أن أعـمل خطوطا ً بالالوان الرمادية. أريد ان أكون أنا الالوان الرمادية،  كي أتـفاعل معها ولا أكون ضحية لها، قررت أن اتحد مع اللون. وأصبح أنا والخطوط واحد

وهـكذا أقدمت على خط عـشـرات الاوراق بالخـطوط العـريضة الرمادية والـسـوداء. وضعـت اناء كبـير للحــبر الاســود وآخر للماء. وبآلات الخط أتــنـقـل من الاسـود الغامق الى الرمادي الفاتـح وتـدريجـيا ًوبعد ساعات اخـتــفى اللون الاسود لـتــبقى نغـمات رمادية  فـقـط، رمادي فاتح ورمادي افـتـح ، وكـنت اريد الوصول الى اقـل درجة من اللون، فبـدأت الــعــلاقـة بـين الرمادي الفـاتــح والرمــادي الغــامــق تــتــحول الى عــلاقات ضـوئية.
  الرمادي الفاتــح  كان أكـثر منــيرا من الرمادي  الغـامـق،  وتـــذكرت  قول نظامي:
 
ـ اللــيلة الاكـثر سـوادا ً لها نهاية مضــيئة ـ

فرفعت عيناي نحو الــســماء، وأخذت اتأمل تلك القبة  الرمادية الغــائمة، انها الان تبدوا لي كصـفحات ملـساء. صفحات من النور الخافـت المـريح. ألـوان رمادية لاتحصى.  والآن أريد  لها ان تدخـل  في خطـوطي. ولكن هـنالك فرق شــاســع بيــن اللـون كضـوء وهـو الغـيــومالتي اراها في السماء. واللون كمادة وهـو الحبر. بـــيـن ما أراه وبــيـن ما أعـمله على الورق. ولكني مع ذلك اريد أن يتوغل هــذا النور في خطوطي. وبقــيت أعــيـش ألوان كألوان الـفجر وكلي أمل بأن شـعــاع الــشــمـس ليــس بعــيدا. ولم أعد كــئـيــبا. ولم يعــد اللون الرمادي بالنــســبة لي من الالوان الحزيــنة.
الغــيوم الـفاتحة اللون عـائـمـة تــسـبح في الــفـضـاء. ترقــص مع غـيوم اخـرى بلون غـامـق. هـالات من الــنور ترقــص مع هـالات اخــرى من الــنور.

والان ماهـي الالوان الرمـادية؟ انها اللـون الابـيض عندما يفـتح ذراعـيه لذرات الســـواد، الالوان الرمادية اسـمها يأ تـي من رماد، والرماد يأتي بعد حـرق الاشـــياء. وهكذا ان الالوان الرمادية  آتـية من اللون الاسود. وما هـو اللون الاسود اذن؟
ومــن أيــن يأتي؟ انه اللـيل كنور، وانه الفـحم كـمادة.  وكل الالوان تصبح سوداء بعد الحريق. انه جوهـر الالوان، وأن الالوان كلها مجــتمعة ومتحدة في خليط تكوّن اللون الاسود.

                            

               

تحضـير وصـفات الحـبر الاسـود هـو رغـبة داخلـية عـمـيـقة. مثل الجوع الذي يـدفـع الانـسـان لتحضـير الاكـل.                                                                     
            يعـرف الخــطـاطــون اللــون الاسـود ويســتعــملونه، مــنذ خــمــسة الاف ســنه،  يســجلون بواسـطته الذاكرة الانـســـانية.

الحــبر هـو الــمادة المـرئــية الاولى لــفـن الخــط،  بل هــو الخــط نــفـــســه. أما كــيــفـيــة تحــضــيره وكــيــفــية اســتــخــدامــه، وبأي كــثــافــة تخــطه القـصــبة على الـورق. كل هــذه الأشــــياء يــصعـــب الــتــكلم عــنها بــدقـة نظريا وبــشــكل وافٍ، فبالاضــافــة للـــمواد واســـرارها والــتـــحضــير الكــيــماوي لوصــفات الــحــبــر، تاتــي الحــالة النــفــســية للخــطاط. 
  
هــنــالك وصــفات كـثـــيرة تركها القــدماء لتــحــضـــير الحـــبر، ولكـــنها مخـــتــصرة، وغــير دقــيـــقة، وتـــتــطــلب التــأويل، كما  قــد تغـــيــرت اســـماء بعـــض المــواد مـما يجـــعــلها غــير مــفهــومة احــيانا. وقــســـم مــنها لم يعــد متـــوفــر بـــسـهــولة.
 

في الـزمن القــديم لم تكــن هــناك قــنــاني حـبــــر جاهز تــباع فـي محـــلات مخــتــصة كــما في يــومــنا الحالي. انـــما كان عــلى كل خـــطاط ان يحــضــّر الحــبر بــنــفــسة، حــســب الـمـواد المــتــوفـرة في مدينـــته، لذا ابــتــكر الخطـاطـون بعـــد الـتـجارب وصــفـات جــديــدة.

الوعــي باهـــمــية الحـــبر، انـــما هــو الــوعــي بالـــمادة الأكــثر أهــمية في عــمل الخــطاط. ان معـــرفـــته لهـــذه المـــادة يقـــوده الى تطــوير معـــرفــته بالخــط ايضــا. وهــذا الــوعــي بالــمـــادة المـــلونة انــما هــو من هـموم كل الفــنانـــيــين الـتـــشــكــيلــيــين  ايضا. فـكل الفـــنانـيـــن ومــنـذ العــصــور القـــديــمة وحــتى القـــرن العــــشـــرين كانــوا يحضـــّرون  الالوان هم بأنــفــــسـهــم  أو من قــبل مــســاعــديهــم، فــكانــوا يعــرفــون جــوهــر الالــوان ومن أيـــن تأ تـــي، وأصـــل هــذه المــواد  وردود  فعـــلها.
 مــدى تغـــيـر لونها عــنــد الجـــفاف، و تحولها بـمرور الزمن،  أو عـــند الــتــمازج مع مواد اخرى. فــهــناك ألــوان تـــســتــخرج من الارض وأخرى من الــنــباتات وثــالـثــــة مـصــدرهـا الحــيـوانات.
 لايــتـلائــم كل حبر مع جميع انواع الورق، وبهــذا لابــد من معــرفــة مــواد الحبــر والورقة الــتي يراد الخـط علــيها.
هــنالك كــلمـتــان في القــامـوس العــربي لهــذه الــمادة الســـائلة
الســـوداء: الكــلـمة الاولى هــي ـ الحـــبر ـ والكــلمة الــثـــانــية هــي ـ الــمداد ـ  وهــنالك تعــريف للحــبرعــند الكاتــب الاديب ـ الصــولي ـ في القرن العاشر الميلادي وهــو:
 ـ ســمي الحــبر حـبــرا ً لتــحــســيــنه الخط،  ومن قــولهــم حبــرت الــشــيء تحــبــيــرا ً وحــبرته حــبرا، زيــنـته وحــســنــته ـ  

 

ـ قـــيل لخــطاط: أخـف رداءة  خــطــك بجــودة حــبرك ـ

ولــكاتــب مــجهــول نــص يــعـّرف الكــلـمـة الــثــانــية ـ المـــداد ـ بــهــذه الكــلمــات

ـ ســمــي مـــدادا ً لانــه يمــد الــقـــــلم، ويــعــيــنه عــلى الاســـتــمــداد ـ  

وان نــســتعــمل الــيـوم كلـمة حــبراكــثر من كـلمة مــداد، فأن الــنصــوص العـــربــية الــقــديــمة تــســتـعــمل كــلمة مــداد اكــثر من كلــمة حــبر

ـ مــن لــم يــحـــســن الاســتــمــداد وبـري الــقــلم، فـلــيـس مــن الكـتابة بــشـيء ـــ المــقر العــلائي ـ

 

                                                 *                           

 

عــنــدما كــنت خــطاطا ً مــبــتـدىء فــي بغـــداد وقــبلها في النجــف لم أكن أعــرف تحــضــير الحــبر، ولم يعـــلــمــني احــد كــيـــفــية تـــحــضــيره. فكــنا نــشـــتـري الحــبر الصــناعي في قــناني صغــيرة تــباع في محلات بــيع مواد الرســم. وكان هــذا الحــبر اســودا ًغامــقا ًوالصــمغ الذي فـيه أي ما يخــلط مع الــمـواد الـــســوداء لعـمل الحـبر يكــون غــير جــيد للــخط. انه مــن نفس نوع الصــمغ الابيـــض المـــســتعــمل في لصــق الخــشــب يــســتــخرجونه مــن الــنــفط.                

 

في عام 1961 كـنــت أرســم في لوحة اعلانــية على الرصــيف في شــارع الرشـــيد بـبـغـداد في زقاق قرب اوروزدي باك. كــنت أعــمل أنذاك كــمــســاعد للخـــطاط عــباس. وأذا بــرجل ثــقــيل الخطوات، في الســـتــين من العــمر، يتــقدم مني عارضا ً عــليّ  قـــنــيــنة  يحملها في يده ملــيــئة بالحــبرالاســود طالــبا ً مــني  شــراءها.  بــعــد ذلك قــيل لي انه الخــطاط عــبد الــقــادر وانه خــطاط جــيد لكـنما وبــســبب ادمـانه عـلى الخـمـور لم يعـــد يــســتـطـيع الخــط. فــصار يــكــتــســب رزقه  مـن بــيع الحــبر الذي يحــضره  بنفـــسه. وعــند تجربتي لهـذا الحبـر انــذاك لم اجده مــقــنعـا ً اذ كان اقــل ســوادا ً من الحــبر الصــناعي وأكــثـر كــثــافة. وحــتــما ً انـني لــم أكـن أعرف ان هذا الحـبر كان يــســتــعــمل مع ـ اللــيــقــة ـ  أو ـ الــطرة ـ  وهـي شــريحة من خــيوط حريرية  او من اسفنجة طبيعية توضــع في المــحـبرة.

ولأول وهـلة ولـمن لم يـتعــلم طــرق اســتعــمال الحــبر الــقــديم يــبـدوا الـيه ان الحــبر الصناعي احـســن وأنــظـف من الحـبرالــمــحضــّر من قــبل الخــطاطــين. ثـم انــني كــنت أنذاك مـنـبهـرا بـثـبات الحــبر الصــناعي اذ يــمكن غــســل الورقة بالــماء فلا يــؤثر ذلك على الحــبر.
ولكـني في ذلك الزمن كــنت كلـما عــملـت خطا ً بالحــبرالصــناعي أجده غــير دقــيق، وكــنت اعـاني من ذلك كثــيرا، ولـم أكن أعـرف ان ســبـب ذلك هــو رداءة الحــبر الصــناعي الذي اســـتعــمله. فكــنت أعود لتصــليح الحــروف وخصـوصا ً نهــاياتها الدقــيــقــة باللــون الابيــض. بــيــنما كــنت معـجــبا ً بدقــة وأناقــة حروف الخــطاطـيــن الكــبار. وخـصــوصا ً من تعــرفــت علــيهم كالخــطاط هــاشـــم او الخــطاط مــهــدي محـــمد صالح الجبوري.
فـــقــد كانوا يحصـــلون على الاناقــة للـــحروف باصغر ادوات الخط ـ الســـلايات  ـ ولأصـــغر الحــروف.
الآن ادرك جــيـدا ً ان معـــرفـــتهم العـــاليــة بالــمواد كالحـــبر والورق لها جانــب مهـم في جــودة  عــملهــم الـفــني. وكمــثال على ذلك فأن من يحضــر الحبــربنـــفــســه هــو كــمن يحضــر الاكل في مـــطــبخ داره. ومن يـــشـــتري الحــبر الصــناعي هــو كــمن يقـــتــنع بأكــل المعـــلبات.  ان الــمصــانع التي تــنـــتج المعــلبات لاتــبحث عــن الصحي و الــنادر والخاص والجميل وانــما تــبحث عــن المــواد المـــتــوفــرة بــســـهــولة لعـــمل الآف العـــلب بهدف تجاري. ونفـــس الشــيء يكون  في مصــانع الحــبر فأنها تحــضــر الحــبر من المــواد المتـــوفــرة بكــثـــرة. ولا تحضـــر الحــبر للخــطاط فــقـــط انمــا لاســـتعــمالات اخرى  متعــــددة.

وهـكـذا عــنــدما كــنت في بغــداد، كان يــبدوا لي ان تحــضــير الحبـــر هــو شـــيء قــديــم، شـيء ثـانـوي ، ولم نعـد نحــتاجه  بل انـني كـنت معـــجب

بالالوان الصـــناعــية الـكـيـمـائـيـة الزاهـــية الــبراقـة الــسـهــلة الاســتــعــمال. فالحــبر الـمحــضـــر عــند الخــطاطــين كان يتــعــفــن في بعـض الاحــيان، ويحـتاج لأضــافــة الصـــمغ من جــديــد او مواد اخرى، لانه مادة حــية وتصــيـبه تحــولات عــند تركه لمــدة طويلة في محـــبرة مـغــلــقــة. بـــيـنــما ان الحــبر الــصــناعي كان مــيــتا ً ولايهــمه ان بــقي مــســجونا ً في المــحــبرة.

لم أكن أتصّـور ان هـذا الحـــبر الصـــناعي ـ الجــميل المـظهر ـ كان يــسـاهـم في رداءة خــطي. ولم اعرف انـذاك ان الحــبر الصــناعي يجـعل الـــمادة الــمرئـية لكل الخـطوط على الكـرة الارضـية متــشــابهــة. بـيــنما عــندما نـنــظر للخـطوط في المــتاحف، فأنــنا سـنــمتع نـظرنا بأخــتلاف الــمادة الــسـوداء للحــبر. كل خـطاط عــنده حـبر أســود يعــكـس شــخصــيــته معبرا عن احساساته

 

ربـع الكــتابة في ســواد مــدادهــا والربــع حــســن صــناعة الكــتـــاب
والـربــع فــي قــلــم مــلــيح بــريـه وعــلى الاوراق رابــع الاســــبــاب

                      عـن ملخص الفـطر والالباب ومصباح الهـدى للكـتاب

 

                                                   *                              

 

عام 1980 كـنت أعـمل عـلى تحضــير كـتاب عـن الخــط العــربي القــديم، وعــندما وصــلت الى موضــوع الحــبر اكـتــشــفـت ان الحــبر الــمــستــعـمل ســابقا عــند الخــطـاطــين كان عــلى نوعــين: الاول يــســمى ـ الحــبر الــفحــمي ـ  والـثـــانــي يـســـمى ـ الحــبر العــفــصي ـ الــمــعــدني ـ

 الاول يعــود اســتــعــماله لاول مرة  الى الخــطــاطــين المـــصــريــيــن القـــدماء زمن الفــراعــنة. والــثــاني كــنت أبحــث عــن بداية اســـتــعــمالة، وقـــرأت فــي بعــض الكـــتـب العــــربيــة، ان ابن مقـــلة خــطاط بــغــداد في القــرن العـــاشـــر كان يــســتـعــمل العــفـص في وصــفاتــه، فـقـلت ربما انه هـو نـفـسه الـذي ابتـكرالوصفة الـثـانــية. ونـقــــرأ ايضا ً ان ابن مقــلة تــرك ـ رســالة في  عــلم الخـــط والقـــلم ـ محفــوظة  في دار الكــتاب بالقـــاهـــرة. فذهـــبت الى القاهـــرة للاطلاع عــلــيها. وعـــند قــراءتها وجــدت ان ابن مقـــلة لم يــذكر العــفص. والنـــســخة في دار الكتاب بالقاهرة ليــســـت مخـــطــوطة  بيـــد ابن مقــلة انــما نـــســخت من قــبل خطاط آخر اسمه  محـــمد الشـــافــعي عام 1663 وتوجــد نــســـخة اخرى بالمـكـــتــبة الــوطــنــية بــتــونــس فــيها نفـــس النــصوص.
يقال ان ابن مقــلة دعا الى تبـــديل اســـلوب خــط القــرآن من الكــوفي الى النـــســخ، وعــنده تجارب كــثــيرة في تــقــنــيات الخــط ومواده، وهــو الــذي رســم أول القـــواعــد للحــروف فعمل نـــســبة مابــين حرف الالــف والدائــرة المــحيــطة به وجعــلهــما كمــقــياس لــكل الحــروف الاخرى.  ورغم انــنا لم نرَ خطــوطه، لكنــنا نعــرف انه كان عــبقــري زمانه.

ولكـني لم أكــتـشــف حــسـنة جـديـدة لابن مقــلة بأســتعــماله لأول مرة العـفـص في الحــبر، فأنه لم يــتـكلم عـن العــفــص في كتابه. ولا ادري من الذي اضـاف ذلك الى وصفة ابن مقــلة في بعــض الكــتب العـربـية. وبعـد البـحث والـتــنـقـيـب عـرفت ان وصـفة حبر العفص قـديــمة جدا. ويــعـتــقـد الــبعــض ان اســتعــمال العــفـص والاملاح الـمعـــدنـية في الحــبر يعــود اكــتــشـافـه للاغـريق منذ حوالي 2200  ســنة.

أعـود الان لـشــرح الفــرق مابيــن النــوعـيــن من الحبر

الحــبر الــفحــمي يعــود اكــتـشــافـه الى مصــر الــفرعــونيــة،  وأما ماكان  قــبل العــصور المــصرية القــديــمة،  فلا نعرفه اذ لم نجد وثــائــق مخــطــوطة بالحــبر.
 قـــبل
عصــر حضــارة  المــصــريــيـــن القــدماء كان اللون الاســود عــبارة عن مادة غامقـــة يجـــدها الانســان في أرض الكهــوف ويضــيف لها الماء،  وقد تكــن خلــيط من الطــين وبقايا النار.
والزخارف الســومرية الســوداء على الخــزف قبل حوالي السبعة الآف سنة قــد تكــن من نفــس المصدر. اما الحبر كما نعــرفه اليــوم فهــو اكـــتــشــاف مصــري.

عـند تحــلـيل العــلماء للخــطوط المــصرية القديمة اكتــشــفـوا وجود الصــمغ العـربي مع المـســحوق الاســود المــكــّون للحـبر. وهـذا اكــتــشـاف مهـم، فــقـبل اســتعـمال الصــمغ العـــربي كان الحــبر عــند تركه في الاناء تـــنزل الذرات الســوداء للاسفــل ويــبــقى الماء في الاعلى.
واســتعــمال الصـمغ العـربي غــّير كل شــيء.
فالــذرات الجــزئية للصــمغ العــربي عــند اخــتلاطها بالــماء،  تعــوم في الســـائل ولا تهبط للاسفل ، فيصــبح الماء ممـــتــزجا ً بالصـــمغ ، وهكذا عندما لاتــهــبط ذرات الصــمغ لأسـفــل الاناء فانها تــســبح في الــماء. فتــصعد على ظهـرها ذرات السـخـام الــســوداء الناعــمة ويــتحول الــماء الى ســائل اســود نســميه الحـبرالفــحمي او ـ حــبر الكاربون ـ

وهـكذا بعــد التحلــيل للكـتابة المـخــطوطه على ورق الـبردي للحــضارة الـفــرعــونـية. يرى العــلماء ان احد الخــطاطــين المــصــريــيـن جاءت له فــكرة مزج الصـمغ العــربي مع الماء والمــسـحوق الاســود،  ليـهـــدي للانــســانية  ـ الحــبرـ هــذا الحــبر الـذي أوصـل لــنا أهـم ثــروة للـثـــقــافــة العــربية ، ألا وهــي كـنوز الشــعـر،  كذلك كـتابات الفارابي عن الموســيـقى وكــتابات ابن ســـينا عن الـطب على ســبـيل الـمــثال.
 
المـواد الاسـاســية لصــنع الحـبريــمكن الـيوم شــراؤها أو البـحث عـنها في الطـبيعة. وللحصول على سـخــام الدخـان لتــحضــير الحــبر مثلا . تــوجد طــرق عــديدة، مــنها وضع أواني خـزفـية مائـلة في أعـلى الشـــموع، وعـند ملامــسـة اللهـب للاناء ســـيترك اللهــب سـخام الـدخان على الاناء وبعــملية دقــيــقة تــؤخذ ذرات الســخام الاســود لعــمل الحــبر. وكان هـذا يأخـذ في الـزمن القــديم أياما ً عـديدة. وهـناك من يعــمل جهــازا
من الحــديد يــشــعل فــيه النــار ويضــع في الاعلى صـفائح مائــلة لتــجمـــيع ســواد الدخان. كان خــطاطي اســطــنــبول يــتــزودون بــسـخام الدخان من اللــذيــن يــشــعلون النار للتـــدفــئة والــماء الحار قرب ســـور المــديــنة.
ويفــضل الخــطاطــون الســخام المأخوذ من مادة غــير جافــة كالــنــفــط. أو الـشــموع الكبــيـــرة.
في العــصر الحالي يــباع الـســخام بالكيــلوات في المــحلات التــي تجـــهــز المخــتــبرات العـلــمــية، أو عــند بائعي المــســاحيــق الملونة.

كـنـت في أحـد الايام  اشـــتـري الحــبـر اليابس من مــحل مخــتص  بمــديـنــة  ـ ناراـ اليــابانــية. مـحل لازال بمــكانه مــنذ الــقــرن الـســادس عــشــركما شرح لي البائع. وكانت هـنالك عــشــرات الاشــكال من الحــبر الجاف على شـكل قـضـبان كالاصــابع،  كلهــا تــقـريبا بنفــس الحجــم لكــنما الاســـعار تخــتــلف بــشــكل مبـالغ فــيه. فكان بعــضها أغلى مائة مرة مـن الاخـريات. وعـندما ســـألت صـاحب الـمحل عـن ســبب هـذا الـفرق الـشـاسـع  قال لي:  ان الـفرق هـو مدى نعــومة المــسـحوق الاســود. وأصله وطريــقة تحضــيرة، ولم ينــس ان يــذكر لي اهــمـية الصــمغ الذي مزجت به كل الـمواد لعـمل الحــبر. ورغم ان اليابان هـو من كبار البلدان الصناعيـة، الا ان الخطاطين هنـاك لازالوا يسـتعـملون الحبـر القـديم. ولا يـحـبذون اسـتعــمال الحــبر الصناعي للـخـط. ويعـتـبر اليابانـيــون ان أحد روافد تقـدمهم الصناعي هو اسـتمرارية الفـنون والمهـن القـديمه. لأنها تعـلـمهم الدقـة والذوق الراقي للاشكال. والذي انعــكــس على صــناعاتهـم الالكــترونية.

أما الصـمغ العربي والـمـسـتعـمل بكـثرة في صناعة الحـبرعـنـد الخطاطين فأنـه مــســتـخرج من شــق يعــمل على اغـــصان بعــض ا شـجار الاقـاصـيا في الصـحراء الحارة. وكان الخطاطين العـرب الـقــدماء يجــدون الصــمغ الجــيد في صـحراء دول الخلـيج ايضا. وهـو نفــس الصــمغ الاصـفر الذي نجده عــند باعة القــرطاســية. وتــوجد انـواع متــعـددة من الصمـغ العـربي، ويعـود ذلك الى نوعية الاشــجار ومــناطق وجـودها ومـدى ارتـفـاع درجة الحرارة فــيـها

وأن اســتعــمال الصـمغ العـربي في الصناعات واسـع وفي عدة مجالات ولا يمكن حصره. كان ولازال يدخـل في بعـض الادوية. في وصــفات الاكل وفي صـناعات عـديـدة. كان الخـطاطون في الزمن القــديـم، يـــبلعــون حبة من الحبر الجاف، عــندما يشعرون باوجاع  في المعــدة. فهــم يعــرفــون ما وضعــوا من المواد لتحضــيره ، كالصــمغ والفحـم.
 وبـدون الصـمغ العـربي لايمـكن عـمل ـ الليــتوغرافي ـ أي الطـباعة المـلونة بواســطة الصخر، قــبل معــرفة الطباعة بالاوفـســيت، ولازال الفنانون التــشــكيــليــون يـسـتعـملون هـذه الطريقة الــيدوية بالــطـباعة لاعـمالهم المـســتــنســخة.

ان وصـفة الحـبر الفـحـمي الآ تـية من مـصـر الـقــديـمة اســـتـمرت حتى يــومــنا الحاضــر. ويــســتعــملها الخــطاطــون في العــالم العـــربي مع اضافات متعـــددة لتحــســيـنها فــمـنهم من يضــيف القــلــيل من العــسـل لاعــطاء مرونة وســيــولة او يضيف المــلح والـشــب.

 رأيت في صـحراء مـوريتانيا أطــفالا لازالوا يحـضّرون الحـبر بهـذه الوصــفات البــســيطة. فـيأخــذون مســحوقا اسودا ناعـما ًـ السخام ـ من بقــايا النــار على الحجر او على الصفائح الحديدية ـ ثم يصــعدون على شــجرة قــريــبة يـبــحثــون عن قطـرات جافــة من الصــمغ، ويخــلطــون كل هــذا في اناء صغــير من الطيــن، ليكــتـبوا بقــلم القــصب الذي يأخــذونه من نبــاتـات الصـحراء المحـيطة بهم،  ويكــتبون على قـطعة من الخـشــب يســمـونها ـ اللوحة ـ
عـندما أرى هـذا المنـظر أمامي اشــعر بانـني اشـــاهــد الانــسـان يكــتب كما كان  قــبل الآف الســـنــين . اكــتـفاء ذاتي وممــارسة فـنـــية.
وهــكذا ان الحـبر الفــحمي هـو اقــدم  حـبر ويعــود الى حوالي خمــسة الآف ســنة.

اما الحـبر الثـاني  المــسـمى الحبــر ـ العــفــصي ـ الـمعــدني ـ والــذي يعــود الى حوالي الالفــين ســنة.    فيرى المــؤرخـون انه من ابتكار الاغـريـق.   تــســتـعـمل فـيه مادة ـ الدبـغ ـ الـتي تــتــوفـر في العــفص بحــوالي 40 بالـمائة وتــتوفر في نبـاتات اخرى كالبــلوط  او قــشــور الرمان بنــســب قــلــيلة.

العــفـص  يدخل في العــشــرات من الوصــفات للحبرفي دول حوض البــحر الابيــض المــتوســط. والعــفص هـو مرض يأتي على بعــض اوراق شــجرة الــبلوط فيــكوّن كرة صغــيرة هي العــفصة. وأحســن العـفص هو عـفـص حلب  وحجــمه كالجـوزة. وكـنت اجده بســهـولة  بباريـس في الثــمانيــنات من القرن العشرين. في المحلات التي تكــثر فيــها عـوائل مهاجرة من دول شـــمال افريــقـيا. حيــث تســتــعـمـله النساء لـتـــقـويـة وتــلـوين شـــعـر الرأس. ولــحـد الآن يـتــوفـر العفص بسهـولة ولـكــن بحــجــم صغــير جدا. ويـباع بالكـيلوات.
  
 كيف نـسـتخرج  مادة الدبغ من العـفص؟

 في الوصـفـات العـربية القـديمة او الوصفات الغـربية نجد هـنالك طريقـتان: الاولى تـتم بوضع العـفص مع الماء في قـدر وتركه على النار لمدة ساعـتـيـن بحرارة تعـادل 90 درجة ، أي قـبل الغـليـان. ومن ثم تصـفـيته لأخـذ المحلول النـقي.
والطريـقة الـثانـية للحصول على مادة الدبغ تـتم بوضع العـفص مع الماء في اناء وتركه لاسـابـيع.

 في الـسابـق كان للخطاطين على طوال الـسـنة ، اناء يحـتوي على هـذا السـائل، ياخذون منه دائـما ًمايحتاجونه، ويضـيفون الماء والعفص كلما قل السائل في الاناء

كيــف يتحول ســائل الدبــغ الى حــبر؟
لابد من اضــافــة الــمادة الـثــانـيــة المــحمــلة بذرات معــدنيــة. في الوصــفات العــربية القـــديــمة يطلــق علــيها اســـم ـ الزاج ـ ويــمــكن ان نجــد اليــوم اشـــياء متعــددة تعــطي نفــس النــتــيــجة كــســلــفــات الحـديد او ســلفات النحاس. ولكن أبــسـط طريقـة للحصول على ســائل مــشــبع بأملاح الحــديد، يتم بأخذ مــســامــير قــديمــة صـدئه، أو اشـــياء اخرى حديـــدية مــشــابهة، ووضــعها في اناء مع الخل الطبيعي وبعد اســـابيــع ســوف تــتــآكل المــســامــير بفــعــل الخل ويصــبح الــســائل مــمتــزجا ً بأملاح معــدنية.

وعــند مـزج ســائل الدبــغ مع الخــل المحـــمل بالحــديد وبأ تصـــالهــما بالاوكســجـين يتحول المــزيج تــد ريجــيا ً الى حــبر اســود. ولكنه يخـــتــلف كل مرة حــســب اخــتلاف المــواد وكــثــا فــتها.  وهــنا لابد من تكرارالــتجربـــة لمــن يحضـّـر الحــبر لاول مرة. كما يجب التعرف على مصدر الخل، اذ توجد الآن انواعا صناعية عديدة قسم منها غير صالح لوصفات الحبر.

 تــدريجــيا يتــحــسـن الحــبر وبعــضهــم يضــيف اليه سـواد الدخان لاكـثــار الســواد. وآخرون يضــيــفون الــشــب المــطحون ومن خــصائصــة انه يـزيد من الســواد ويــسـاعد على تمــاســك المــواد فــيما بــيــنها. ولابــد من اضــافــة الصـــمغ العــربي. الذي يــثــبــته على الورق. ويـرفع من كــثـافــة الحــبر. ان هــذا النــوع من الحــبر يكون بحاجة الى لــيـقــة ـ طــرة ـ داخل المحــبرة. ويمـكن ان تكــون اســفــنجة طــبــيعــية. او خــيـوط من الحرير.

وقد قال اسـحاق ابن ابراهـيم: ومما يزيـد الخــط حـســنا، ويـمــكن له في الــقــلب مـوضـعا، شـــدة ســـواد المـــداد.

وبعــض الخــطاطــين يضــيف للحــبر ماء الورد او الـقـــرنـفـل، او الـمـســك لتــطيــيـب رائـحة الحـبر

مـداد المــحابـر طــيـب الرجال وطـيـب الــنـسـاء من الزعـفـران
فهــذا يــلــيــق بأثـــواب ذا وهـــذا يـــلـــيــق بــثـــوب الحـسان  

                            ابوعـبـد الله الــبـلوي

 

المــقـاديــر القــديــمة الـمذكـورة في الوصفات اكـثرها غـير دقــيـقــة ولابــد من عمل الـتجارب المــتـعــددة للوصول الى نتيجة مرغوبة. ويــتــطــلب الحــبر لـتــما ســكه تحــريكه بكــثرة  لدمــج المـواد فــيــما بــيـنها. وفي الوصــفات العــربية الـقـــديــمة نـصــائح تــثـــير الضــحــك، ولكـن  لها حــقــيـقــة. فــمـثــلا  يقــال انه من الضــرورة هز قــنــيــنة الحــبر الآف المــرات. ولــمن لايــســتطــيع ذلك يــعــطــيها الى صــديق يــسـافر الى مكة  ليــربطها على ظهــر البعــيــر. أو اعــطــائها الى صــاحب حــمام لربطــها على الــباب.

ـ لاتجزعن من المداد ولطخه ان المداد خلوق ثوب الكاتب ـ
                            
                                     محـمـد بن مـوسى الرازي

 

                                                   *                                    
          

وصـفـة الحــبرلأبن مقــلة كـما جاءت في نــســخة محمــد الشـــافــعي 1663 القــاهــرة والمــنــسـوخة عــن كــتاب ابن مــقـلــة المـفـــقود:

أجـود الـمــداد ما أخــذ من دخان النـــفـط بأن يــؤخــذ مــنه ثـــلاثــة أرطال فــيـجاد تخــلصـها وتصــفــيــتها وتــلقــى في طنــجــير ويصــب عــليه من الماء ثــلاثــة امثـــاله ومن العـــســل رطــل واحــد ومــن المــلح خمـــســة عــشــر درهــما ً ومن الصــمغ المــســحــوق وزن عـــشــرة دراهــم ويــســـاط عــلى نار ليـــنة حــتى يثـــخن جــرمه ويصــيـر دُهـــنه كالـطــيـن ويــترك في اناء ويــســتــعـــمــل عـنــد الحــاجة بقــدر مايكــتـفي به.

 

وهـناك وصفات مبـســـطة لتــحضــير الحــبر الاســـود كهذه الوصفة لأحد الخــطاطين القـــدامى  

ـ ضـع ورد جـوري في قــدر كبــير، ثم دعه يغــلي بالــماء الحار، حــتى ينحل، ويــقـطر مـنه ماء الورد، ثــم خــذ البــقــيــة ـ الحــثــالة ـ او العـصارة على لغـة اهل الصــناعة. ضع فـيها  ـ حديد صــاديء ـ فيــتـفاعل معها بالـتأكــسـد، ويــتـــبدل لون الحـثـــالة الى اســـود، ثم تجـــفــف هـــذه الحـــثــالة حــتى تكون كالفــصــوص، ثم تطــحن جـــيدا وتـــذاب بالمـــاء الحار فـــتــكون اســودا.
يضــاف الى هـــذا الحــبر، قـــليــل من الصــمغ العـــربي حتى يــلـتــصق الحــبر بالورق عــند الكــتابة، ولا يســقـط بالنــفــض او النـــفخ، كذلـك يكتـــسـب الحـبر من الصــمغ لمعــانا ـ

وهـذه وصـفة قـد يـمة لمـداد من مديـنة الكــوفة

ـ  تأخـذ قــشــور الـرمان، تحـرقـه، وتأخـذ رماده، تعـجـنه بلـبــن حلــيـب وشـيء من صـمـغ محـلول.
ثـم اجـعـله ا قــراصا، وجــفـفه في الـظل، فأنه اجـود مايكون من المـداد.

وعــند الاطلاع على وصفــات الحــبر القــديمة نــجد ان اكثــر الخــطاطــين كانوا يحاولون تحــســيــن الحــبر بأضــافات جديـــدة، فهــناك من يحــمص الرز كالقـــهــوة حتى يصـــبح اســـود، ثم ُيــــبرّد ويُــطـحن ويُخـــلط بالصـــمغ ويتـــرك في الـــشـــمـــس لــعــدة ايام، يضــاف اليه الصـــبر لمـــنع مــجيء الــذباب عــلـيه، وبعــضـهم يضـيف اليه الـسـخام المــتجـمع من الشـــموع  التي تستخدم في حفلات  العـــرس الكبــيـــرة

خطــاط آخــر يحرق نوى التـــمر، ثم يطـــحنها ويضـــيــفها للحــبر. وفي دول المغــرب العــربي، ولحـــد اليــوم، في بعـــض المــناطــق يحرقــون بقـــايا خــروف من قــطع جلــد وصــوف وقــرون حتى التـــكلــس، والعــجيـنة السـوداء الـتي تــتـكون يكـفـي خلــطها بالــماء لتــكون حبـــرا بــنــيا ًجــيدا،  يــســتــعــمل للخط على اللوحة الخــشــبــية في الـمـدارس القــرآنــية. وحــتما ً كان هـذا النــوع من الحــبريــســـتعـــمل في الماضي للخط على الرق وجلود الحــيوانات. وكل هــذه الأشـــياء المــخـلوطة في عـمل الحــبر تــتــطلب تصــفيــة، واحــســن شيء يـســتـعـمل للـتصفـية هـو الـقـماش النــاعـم جدا ً كالحــرير او كالـجواريب النــسـائــية الــناعــمة.

وهـنا يتكلم ابن شهــيد في القـرن 12 عن نـظافـة الحبر والاعـتـناء به

ـ انما مدادكم ماء ديــباجتـــكم وصــبغة امانتــكم، فأســتـنـظفـوه اسـتـضا فـتكم لـملابـسـكم، وأسـتجـملوه اســتجـمالكم لمـصابغـكم، وأنـما خطـوطـكم خلـفاء الـسـنـتـكم وخطبـاء عـقـــولكـــم ـ

 

ابــن الــبواب في القــرن الحادي عــشــر يتــكلم عن الحــبر

وألـق دواتـك بالـدخان مـدبــرا بالــخل او بالحــصــرم المعــصور
وأضــف اليــه مغــرة قــد صـولت مع اصــفر الزرنيــخ والكافــور
حتـى اذا ماخــمــرّت فأعــمــد الى الورق النــقي الـناعــم المـخبـور

 

ويعـتـني الخـطاطـون بالدواة وهـناك أوصـاف مـتعــددة لها وأكــثـر الخـطاطــين يـضع فيــها ـ ليــقة ـ وهـي كمــية من خيــوط الحــرير. وتـســمى ايضا ـ طرة ـ ويمـكن كذلك وضع اســفــنجة طبـــيعــيـــة  تـــســاعد  الــقــلم على اخــذ الكــمية المــلائــمة  من الحــبر.
وتوجد نصــوص ادبـــية وأشـــعار كــثـــيرة حول المــحــبرة.

وهــذا النــص يعــود للخــطاط احمــد بن بنــت الاعـــز. اذ انه ترك الدواة لــمدة طــويلة دون ان يخـط  لانه لم يحصل على عمل له. وعند عودته للمـحـبرة فـيــجد البــياض قد غـطى الســواد بســـبب التعـــفن فقــال

تعــطـلــت فأ بيــضت دواتي لحـزنها ومــذ قــل مالي قــل منها مـدادهـا
وللــنـاس من ســـود اللــباس حدادهــم ولكــن مــبــيض الدواة حدادها

وقد عـبر الخـطاطون عن مــشــاعرهــم بأســتـــعارات عن مــواد عــملهم، وعــن المــداد ومــركبــاتــه كما في النـص التـالي

  ـ قال ابو هـفان الـشــاعر العـباســي، ســألت خــطاطا عن حاله فــقـال: عــيـشـي أضــيق من محــبرة، وجـســمي أدق من مـســــطرة، وجاهــي أرق من الزجاج، ووجهــي عــند الــناس أشـــد من ســواد الحــبر بالزاج، وحــظي أخــفى من شـــق الــقـلم، وبدني اضعــف من قصــبة، وطــعامي أمّر من العــفص، وشــرابي أحــر من الحــبر، وســوء الحال ألــزم لي من الصــمغ.
فــقــلت له عــبرت عن بلاء بــبلاءـ

وكان عـمل الخطاطين في الماضي يقـترب من العـمل الســياسي ايـضا فعـندما  أراد ابن المقـفع فـضح الـسـفاح  اســتعـمل الحـبر الســري. والكــتابة بالحـبر الـســري تـــتم أولا بالكـتـابة بالــمحـلول الــشـفاف المـســتخــلص من العــفص.  فـتـكون الحــروف غـير مرئية عـند الجــفاف. وترســل الرســالة الى الــشــخص الذي يــجــب ان يــقــرأها. فــيــمرر عليــها قــطنة مــبللة بالـمحلول المــكون من الخل والاملاح الـمعــدنــية كما ذكرنا ســابقـا بوصــفة الحـبر، فــتــظهر الكــتابة ســوداء. ويمكن قراءتها.

وهــناك نص قـديم يتــكلم عن هــذه الوصــفة:
 
ـ إن قــتل الخلــيــفة ابن المقـــفع، فأن طريقــتــه الســـرية في تهــريب الكلام الحر انـتــقــلت الى الـقـرامــطة فــحــملوهــا دعــوتــهم الى الثــورة والعــدل.
ثم بلغــت محــمد بن علي فدعا بها الزنوج بــســباخ البــصرة الى كــسر الاغــلال. وأنــتهى هــذا الحــبر الى اخوان الصفـا فدونوا به رســائلهم الســرية الداعــية الى اســقاط الخلافــة العــباســية المـــتهــرئة.
وكاد المخــبرون والوشــاة يلــقــون الــقــبض على الطريقــة الســرية لاســـتحضـار هــذا الحبر لما داهــموا دار الاديب الــفــيلــســوف ابن الراوندي في الــقرن التــاســع وقــتـلوه. الا ان احدى معــشــوقات الفــيلــســوف تــمكــنت من اخــفاء الوصفة بيــن نــهديها وهــربت. وتجوب هــذه الوصـــفة الآن بلاد العـــرب  متخـــفــية عن عــيون الســلــــطان ـ

ويعـبرابي بكـر محمـد بن يحـيي عن اهــمـية الحـبر والقــلم بالكــلمات الـتالـية

ـ فـما رأيـنا مـدادا قـبل ذاك دما ً     ولا رأيـنا حـساما ً قـبل ذا قصـبا ـ

وقـبل الف سـنة كانت التـقاريرالسـرية التي ترسـلها المـدن للســلطان، تـكـتـب من قـبل الخطاط. ولكـنه عـندما كان يـراهـا ظالــمة، فأنه يكـــتـبها بحــبر رديء كي لاتــقرأ. كما يعـلــمـنا النــص التــالي لاحــمد بن ابراهــيم

ـ كان مــشـايخ الكـتــــّــاب وزهـاد العـــمال يخــتارون ان يكون مايــرفــعــونه من جـــماعــاتهـم الى دواويــن الســلطان بخـط غــير جــيد ومداد غــير حالك، في صحف مظــلمة، ليثـــقــل على من يرد عــليه من المــتــصـفحين، فــيـعـدل عـنها الى غــيرها مــما لايــتعــبه.

 

وأخيرا ما هي أهــمية تحضــير الحــبر في عــصرنا الحالي؟

اولا  للخــطاط المهــني  تكون ضــرورة لابد مـنها لتحســين خطه، ووعي المادة الاساسية في عمله. واعــطاء الاناقــة لأشــكال حروفه.
وثـانـيا  ان هــذه المعــرفة ســوف تعــطي الخطــاط ـ او الفــنان التــشـكــيلي ـ الحـرية لتحضــير الالوان حــســب المــواد المتــوفرة بالــمكان الذي يتواجد فيه، فأن وصفات الحــبرالاســود هي الــقاعدة الــتي يمكن ان تطــبق لتحضــير بقـية الالوان، وذلك بتــبديل الســخام الاســود بمــســـحوق ناعــم ملون آخـر.

لتحضــير لون ترابي مثلا ً يكــفي عــند التــجول في الريف اخذ طين غامـق اللون من الارض ومن الافـضل ان يمــيل لونه للـصفرة او للـحمرة.  وثم خلــطه بالـماء في اناء كـبـيــر، وتركه يــترســب لمدة قــليــلة، ثم اخــذ الماء الخابط في اناء آخر وتركه في الشـمــس حتى يجــف، وما ســوف يترســب في قعــرالاناء من قــشــرة ملونة، تطحن لكي تصــير ناعــمة جدا وهــذا هــو المــســحوق الـملون الذي يــسـتــعـمله كل الفـنــانيــين للحصـول على الالوان التــرابـية. وتطبق عليه نفــس وصــفة الحبــر الاســود.

 وأن أردنا لونا  كثـــيفا  فيـجب خلط المـسحوق الملون مع قـليل من الـماء، حتى يصبح كالمـعجون، وثم يضاف اليه الصمغ لكي يثــبت على الورق عند اســـتعــماله.  
 وهـكـذا يكون بالامكان انـتاج الوان لاتـشـابه الالـوان التجارية، ان كان المــتـوفر منها رديــئا، وكذلك يمكن
ايضا  تحـســين الالوان المــباعة بخلــطها بمواد نــبــيلة كالمــسـحوق التــرابي الذي عــملناه. فالاحبارالصــناعية ذات الوان فاقــعة وفـقـــيرة، وبمجرد خلطها بمــســحوق ملون جــيد فــســوف تكون أكثـــر نــبلا ً وأكـــثر ثراء.

حسن المسعود ـ باريس ـ كانون الثاني 2007

لايجوز اعادة النشر دون موافقة الكاتب

 

لمواصلة الموضوع بشكل اوسع لابد من الرجوع الى هذين الكتابين

Désir d'envol
Hassan Massoudy
Edition Albin Michel – Paris

الكتاب

تأليف : حسن المسعود
يحتوي هذا الكتاب على 120 لوحة خطية. نصف بالاساليب القديمة ونصف بأسلوب حديث وبالالوان
كما يحتوي الكتاب على نصوص نظرية كثيرة عن الخط العربي الحديث باللغتين العربية والفرنسية
208 صفحة وبقياس 33 في 25 سنتمتر

   

Calligraphie Arabe Vivante
Hassan Massoudy
Edition Flammarion – Paris

الكتاب

تأليف حسن المسعود
يحتوي على دراسة عن الخط العربي القديم باساليبه المتعددة. وكيفية خطها وتحليل قواعدها الجمالية. مع اكثر من 200 صورة للمعالم المعمارية المزينة بالخطوط وكذلك صور خطوط في لوحات وكتب وحاجيات متعددة. اكثرها تنشر لأول مرة
كما يحتوي على نصوص نظرية عن الخط العربي باللغتين العربية والفرنسية ومنذ عام 1981 يعاد نشرهذا الكتاب بدون توقف
176 صفحة وبقياس 32 في 24 سنتمتر

 

الرجوع الى صفحة الاستقبال

الرجوع الى صفحة المقالات